الخميس، 11 أكتوبر 2012

زنقة اليهود - درنة ...بقلم محمد الأصفر




زنقة اليهود بالمدينة القديمة بدرنة ليست عريضة .. طويلة ومتعرجة .. عرضها كعرض زنقة أربع عرصات بحارة طرابلس .. في المعبد كان كتابهم المقدس التلمود المكتوب على ورق البردي و الملقب بالزغير .. في الأربعينيات من القرن العشرين اختفى الزغير .. حزن اليهود في درنة وبكوا .. فهو لهم بمثابة القرآن لنا .. يقولون إنه سُرق .. ويقولون إنه أخذه ناحوم .. والعلم طبعا عند ربي .. لكن سرقة الكتب المقدسة جريمة شنيعة والعبث بها أشد إجراماً وشناعة .. يقولون إنه أخذه ناحوم .. وناحوم هذا تاجر يهودي بزغ نجمه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية .. كان ينتقل بين نجوع ومدن بنغازي والجبل الأخضر ودرنة وطبرق .. يؤجر العمال ويحرض الناس العوام الليبيين على جمع الرابش (الحديد والنحاس ومخلفات الحرب العالمية الثانية من حطام دبابات وطائرات وبوارج وقنابل وصواريخ).. الناس تجمعها له وهو يشتريها منهم مباشرة أو بواسطة وسطاء محليين جشعين بدراهم معدودة ويصدرها في بواخر ضخمة إلى أمريكا وأوربا .. وقيل إلى الصهاينة في فلسطين المحتلة لتُصنّع من جديد ويُضربُ بها العرب والمسلمون. كثير من القبائل الليبية القادمة من غرب الوطن اشتغلت في جمع الرابش مثل العجيلات والرياينة .. كان الرياني وهو يفكك القنبلة يناجيها قائلا: يا اتعشي بيّا يا انتعشا بيك. وهذا دليل على الثمن البخس الذي يمنحه ناحوم لهؤلاء البؤساء الجياع .. يخاطرون بحياتهم في سبيل وجبة عشاء بائسة يمنّ بها تاجر جشع على أبناء الوطن. كثير من هؤلاء الليبيين الفقراء قضت عليهم الألغام والقنابل الغادرة .. منهم من تشوّه وفقد أحد أطرافه .. الصديق إصويلح فقد ذراعه وإحدى عينيه .. هو لا يلم الخردة أو يفكك الألغام والقنابل لاستخراج النحاس والبارود .. لكنه يرعى غنمه في وديان لملودة .. وذات رعوي هاجم قطيعه ذئب أشقر شرس فتصدّى له بهراوته الغليظة .. ركض خلفه حتى ابتعد .. قطيعه نجا من الافتراس وهو عاد منتصرا منتشيا ناظرا صوب النجع ومتخيلا وقع الخبر على محيّا حبيبته وهي تحكي لصويحباتها حبيبي إصويلح قتل الذئب .. وفجأة كرّ الذئب ومعه ثلاثة ذئاب أخرى فتصدى لها إصويلح وكلبه السلوقي .. ركضوا خلفها .. هشم رأس أحدها والثلاثة الباقية هربت لاهثة تتقي نيوب السلوقي .. وهو عائد إلى القطيع يختصر الطريق من درب غير مطروق داس على لغم .. استشعر غدر النار تحت قدميه .. لم يرفع رجله .. هذه اللحظات تحتاج إلى تركيز شديد .. بعد أن عاد إليه الهدوء صفر للسلوقي .. التقت نظراتهم .. عيون أربع ترقص رقصات الحياة وتتلألأ بفعل الشمس مضيئة سبيل النجاة .. صفر إصويلح للسلوقي صافرة استغاثة .. وبانحناء رأسه إلى الوراء وإلى الأسفل فهم الكلب الأليف والمدرب عمله .. حفر بمخالبه خلف إصويلح نبيشة صغيرة .. حفر بجنون وحرص .. لكن الحفرة ليست عميقة .. ليست كافية للنجاة .. عمقها نصف متر فقط .. صفر كقبر فقط .. صفر له إصويلح صافرة متقطعة خاصة .. لابد له من إحضار نجدة من النجع .. أوصاه بلغة إنسانية أن لا يجعل حبيبته تراه .. لو رأت الكلب وحيدا في النجع ستصرخ معتقدة أن إصويلح في مأزق خطير .. تسلل السلوقي إلى النجع ورفع رواق خيمة ابن العم بريدان الذي فهم الأمر وتبع السلوقي بمعداته .. بدأ الحفر خلف إصويلح .. عمق ما حفر الكلب وبعد دقائق صار العمق متراً ونصف والعرض مترين .. ابتعد بريدان والسلوقي .. بريدان يقرأ القرآن والسلوقي صامت يتأمل صاحبه إصويلح .. إصويلح يقرأ القرآن ويدعو الله كثيرا .. ويدعو لحفظ حبيبته ويدعو بالخير للنجع ولكل الناس .. وفي لحظة تجلٍّ تصاعد الدعاء وانكفأ إصويلح إلى الوراء واقعا في الحفرة وناض مع انكفاءته اللغم موزعا شظاياه في الأرجاء .. شظية اختارت الهبوط أسفل .. كان هبوطها أسرع من انكفاءته .. بترت يده .. وأخرى صغيرة فقأت عينه .. بقية الشظايا الصغيرة تناثرت على وجهه وجسمه محدثة خدوشا وجروحا سهلة أزالها بريدان بأوراق الخروع والتين .. ولحس الكلب حرقانها بلعابه النقي .. أعيد إصويلح إلى النجع على ظهر فرس .. وأكمل إسعافه ومداواته هناك .. أغرقت ذراعه المبتورة في زيت زيتون ساخن .. وضُمّخت لأسابيع بعسل النحل .. عينه عصبت بمحرمة الحبيبة الفائحة فتلاشى ألمها وأضاءت .. أكتب في مكتبة الصحابة والآن ارتفع آذان صلاة الظهر .. الله أكبر .. الله أكبر .. كانت حبيبته تشرف على تمريضه .. تفطره بيض الحجل والترفاس وتطعمه مرق الجداء الربيعية .. وتشربه لبن النوق الطازج ونقيع الحلبة وسحلب القصب. والآن ها هو يتذكر بحسرة .. مهما عوّض من مال لن يساوي ذراعه المفقودة ونور عينه المنتزع منه عنوة .. من حق أطفاله أن يعانقهم بذراعين .. من حقه أن يصفق لهم عندما ينجحون في المدرسة .. اللعنة على الحرب وعلى الألغام وعلى البارود .. إصويلح رفض كل التعويضات المادية .. يريد التعويض الحقيقي .. يريد أن تكون بلاده حرة دائما وقوية .. لا يعبث أي مستعمر بترابها ويفخخه بالقنابل والألغام .. إصويلح يتألم الآن .. لكنه يصبر على القضاء والقدر .. هو الآن يعيش حياة سعيدة في درنة .. في شقة على شاطئ البحر .. صحبة زوجته الطيبة وأطفاله الرائعين .. يقود سيارته بيد واحدة ويرى الطريق بعين واحدة . تأقلم مع الوضع .. صار يمارس حياته بصورة طبيعية متجاهلا ما فرضه عليه جنون البارود من ألم ومتاعب .. يجالسني كلما التقيته.. نتجاذب حكايات طويلة جميلة عن الحب وغناوي العلم في النجوع .. وعندما نملّ من هذه الحكايات أو نشبع منها نفتح التلفاز على قناة الجزيرة الرياضية .. نشاهد مباراة كرة قدم لفريق برشلونة أو ريال مدريد .. نتابع اللمحات الفنية لللاعب البرازيلي رونالدينهو .. نعجب بشعره المتهدل وبابتسامته الأمازونية الساحرة .. أحاسيسه تزداد رهافة عندما يضيّع هدفا أو يخطئ في تمريرة لزميل .. يكسوه أسى وحزن لذيذ .. حسرة وليس ندما .. يشاركنا ابنه الظريف الجلسة ويشاكس أباه قائلا : الدنيا حظوظ .. رونالدينهو يا باتي إصويلح قدماه قادتاه إلى المال والمجد وأنت قدماك قادتاك إلى الألغام. الناس من الفقر تلم خردة الحرب .. وناحوم يصدرها ويجمع المال .. وبعد أن صدّر كميات ضخمة من المعدن غادر البلاد تاركا الألغام مزروعة مكانها تحصد الناس منذ ذلك الزمن حتى الآن .. عندما غادر كان تلمود اليهود الزغير قد اختفى .. ربما يكون قد أخذه معه وباعه لإحدى المنظمات الصهيونية المتطرفة .. ففي عرف التجار يجوز بيع أي شيء .. فالتجّار دينهم المال ولا شيء غيره .. في زنقة اليهود هطلت دموع كثيرة .. عندما ضاع الزغير بكت نساؤهم وخبطن صدورهن بعنف .. لكن الدموع الكثيرة جداً هطلت عندما أحبّت إحدى بناتهم شاباً مسلماً درناوياً جميلاً ولتتزوّج منه اضطرت أن تترك دينها اليهودي وتعتنق دين الإسلام .. أرجوحة الحب المجنونة نقلتها من دين سماوي إلى دين سماوي آخر .. سماء تلعب بالمشاعر .. وسحابة تسبح بالعاشقين .. القلب انتقل من دين إلى دين .. فأين المشكلة إذن؟ .. زفت هذه العروس فوزية في عربة وبجانبها عريسها الدرناوي .. الطبول تحفهما والتصفيق والزغاريد صاخبة حولهما .. والأحاسيس المتعاطفة تبرقش آمالهما بخفقات الطزاجة .. العرس جميل .. والموكب حي .. لكن الأغنية التي يرددها الموكب كانت في غير محلها .. فعلا أغنية تؤلم القلب وتجرح الروح .. كانوا يغنون: طيّح سعدك يا رحمين .. فوزية فازت بالدّين. كان رحمين يسمع الغناء من نافذة بيته .. يعانق زوجته ويبكي بحرقة وقهر .. يتمنى الآن أن ينتزع ابنته من الموكب .. لو غنوا للحب لما تأثر .. لكن لماذا طيّح سعدك يا رحمين ؟ .. وما ذنب بخت رحمين وسعده ..؟ .. هل لأنه أنجب بنتا جميلة أحبّت المكان وما عليه بصدق فتجاوزت الشعائر إلى شعائر أخرى منبجس نورها من المشكاة نفسه.. إنها العنصرية المقيتة والتعصب الأعمى الحقير .. يحدث مثل هذا في مباريات كرة القدم وفي الانتخابات وفي كل شيء أركانه اثنان .. هذه الأحاسيس المتطرفة هي التي قادت أكثر من مرة إلى الحروب العنصرية والتطهير العرقي والتطرف الذي ينتج الدماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

نرحب بتعليقاتكم على منشوراتنا و تذكروا قول الله تعالى و ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد